سورة الروم - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الروم)


        


لما بيّن سبحانه كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى ما ينبغي من مواساة القرابة، وأهل الحاجات ممن بسط الله له في رزقه، فقال: {فَئَاتِ ذَا القربى حَقَّهُ} والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته أسوته، أو لكل مكلف له مال وسع الله به عليه، وقدم الإحسان إلى القرابة لأن خير الصدقة ما كان على قريب، فهو صدقة مضاعفة وصلة رحم مرغب فيها، والمراد: الإحسان إليهم بالصدقة والصلة والبر {والمساكين وابن السبيل} أي وآت المسكين وابن السبيل حقهما الذي يستحقانه. ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان، ولكون ذلك واجباً لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول.
وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ قيل: هي منسوخة بآية المواريث. وقيل: محكمة وللقريب في مال قريبه الغنيّ حقّ واحب، وبه قال مجاهد وقتادة. قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد، ورحمه محتاج. قال مقاتل: حق المسكين أن يتصدّق عليه، وحق ابن السبيل الضيافة. وقيل: المراد بالقربى: قرابة النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي: والأوّل أصح، فإن حقهم مبين في كتاب الله عزّ وجلّ في قوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى} [الأنفال: 41] وقال الحسن: إن الأمر في إيتاء ذي القربى للندب {ذَلِكَ خَيْرٌ لّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} أي ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرّب إلى الله سبحانه: {وأولئك هُمُ المفلحون} أي الفائزون بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالاً لأمره.
{وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن رِباً} قرأ الجمهور: {آتيتم} بالمدّ بمعنى أعطيتم، وقرأ مجاهد وحميد وابن كثير بالقصر بمعنى ما فعلتم، وأجمعوا على القراءة بالمدّ في قوله: {وما آتيتم من زكاة} وأصل الربى: الزيادة، وقراءة القصر تؤول إلى قراءة المدّ؛ لأن معناها: ما فعلتم على وجه الإعطاء، كما تقول: أتيت خطأ وأتيت صواباً؛ والمعنى في الآية: ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض {لّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس} أي ليزيد ويزكو في أموالهم {فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله} أي لا يبارك الله فيه. قال السديّ: الربا في هذا الموضع: الهدية يهديها الرجل لأخيه يطلب المكافأة؛ لأن ذلك لا يربو عند الله، لا يؤجر عليه صاحبه، ولا إثم عليه، وهكذا قال قتادة والضحاك. قال الواحدي: وهذا قول جماعة المفسرين. قال الزجاج: يعني: دفع الإنسان الشيء ليعوّض أكثر منه وذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه؛ لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه.
وقال الشعبي: معنى الآية: أن ما خدم به الإنسان أحداً، لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزي به الخدمة لا يربو عند الله.
وقيل: هذا كان حراماً على النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص لقوله سبحانه: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] ومعناها: أن تعطي فتأخذ أكثر منه عوضاً عنه. وقيل: إن هذه الآية نزلت في هبة الثواب. قال ابن عطية: وما يجري مجراه مما يصنعه الإنسان ليجازى عليه. قال عكرمة: الربا ربوان: فربا حلال، وربا حرام. فأما الربا الحلال فهو الذي يهدي يلتمس ما هو أفضل منه: يعني كما في هذه الآية. وقيل: إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرّم، فمعنى لا يربو عند الله على القول لا يحكم به، بل هو للمأخوذ منه.
قال المهلب: اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب بها الثواب، فقال مالك: ينظر فيه، فإن كان مثله ممن يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك، مثل هبة الفقير للغنيّ، وهبة الخادم للمخدوم، وهبة الرجل لأميره، وهو أحد قولي الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يكون له ثواب إذا لم يشترط، وهو قول الشافعي الآخر. قرأ الجمهور: {ليربوا} بالتحتية على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا. وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية مضمومة خطاباً للجماعة بمعنى: لتكونوا ذوي زيادات. وقرأ أبو مالك: {لتربوها} ومعنى الآية: أنه لا يزكو عند الله، ولا يثيب عليه؛ لأنه لا يقبل إلاّ ما أريد به وجهه خالصاً له {وَمَا آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} أي وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها المكافأة، وإنما تقصدون بها ما عند الله {فأولئك هُمُ المضعفون} المضعف دون الأضعاف من الحسنات الذين يعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الفراء: هو نحو قولهم: مسمن ومعطش ومضعف إذا كانت له إبل سمان، أو عطاش، أو ضعيفة. وقرأ أبيّ: {المضعفون} بفتح العين اسم مفعول.
{الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْء} عاد سبحانه إلى الاحتجاج على المشركين، وأنه الخالق الرازق المميت المحيي، ثم قال على جهة الاستفهام: {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مّن شَيْء} ومعلوم أنهم يقولون ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك، فتقوم عليهم الحجة، ثم نزّه سبحانه نفسه، فقال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي نزّهوه تنزيهاً، وهو متعال عن أن يجوز عليه شيء من ذلك، وقوله: {من شركائكم} خبر مقدّم ومن للتبعيض، والمبتدأ هو الموصول، أعني: من يفعل، و{من ذلكم} متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من {شيء} المذكور بعده، ومن في: {من شيء} مزيدة للتوكيد، وأضاف الشركاء إليهم؛ لأنهم كانوا يسمونهم آلهة، ويجعلون لهم نصيباً من أموالهم.
{ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس} بيّن سبحانه: أن الشرك والمعاصي سبب لظهور الفساد في العالم.
واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور، فقيل: هو القحط وعدم النبات، ونقصان الرزق، وكثرة الخوف ونحو ذلك، وقال مجاهد، وعكرمة: فساد البرّ: قتل ابن آدم أخاه: يعني: قتل قابيل لهابيل، وفي البحر: الملك الذي كان يأخذ كل سفينة غصباً. وليت شعري أيّ دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب، فإن الآية نزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، والتعريف في الفساد يدلّ على الجنس، فيعم كل فساد واقع في حيزي البرّ والبحر.
وقال السديّ: الفساد الشرك، وهو أعظم الفساد. ويمكن أن يقال: إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي، ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه. وقيل: الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش. وقيل: الفساد: قطع السبل والظلم، وقيل: غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه. والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان راجعاً إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات، وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم، أو راجعاً إلى ما هو من جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم كالقحط وكثرة الخوف والموتان ونقصان الزرائع ونقصان الثمار. والبرّ والبحر هما المعروفان المشهوران. وقيل: البرّ: الفيافي، والبحر: القرى التي على ماء قاله عكرمة، والعرب تسمي الأمصار: البحار. قال مجاهد: البرّ: ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر: ما كان على شط نهر. والأوّل أولى. ويكون معنى البرّ: مدن البرّ، ومعنى البحر: مدن البحر، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها. والباء في {بما كسبت} للسببية، {ما} إما موصولة أو مصدرية {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ} اللام متعلقة بظهر، وهي لام العلة، أي ليذيقهم عقاب بعض عملهم أو جزاء بعض عملهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عما هم فيه من المعاصي ويتوبون إلى الله.
{قُلْ سِيرُواْ فِى الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلُ} لما بين سبحانه ظهور الفساد بما كسبت أيدي المشركين والعصاة بيّن لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأوّل، وأمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم ويشاهدوا كيف كانت عاقبتهم، فإن منازلهم خاوية وأراضيهم مقفرة موحشة كعاد وثمود ونحوهم من طوائف الكفار. وجملة: {كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ} مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها، وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به إلى ما صارت إليه {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينَ القيم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ} هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمته أسوته فيه، كأن المعنى: إذا قد ظهر الفساد بالسبب المتقدّم فأقم وجهك يا محمد إلخ. قال الزجاج: اجعل جهتك اتباع الدين القيم، وهو: الإسلام المستقيم {من قبل أن يأتي يوم} يعني: يوم القيامة {ا مردّ له} لا يقدر أحد على ردّه، والمردّ مصدر ردّ، وقيل: المعنى: أوضح الحق، وبالغ في الأعذار، و{مِنَ الله} يتعلق ب {يأتي} أو بمحذوف يدل عليه المصدر، أي لا يردّه من الله أحد.
وقيل: يجوز أن يكون المعنى: لا يردّه الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه، وفيه من الضعف وسوء الأدب مع الله ما لا يخفى {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} أصله يتصدعون، والتصدع التفرق، يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه قول الشاعر:
وكنا كندماني جذيمة برهة *** من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
والمراد بتفرقهم هاهنا أن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة، وأهل النار يصيرون إلى النار. {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي جزاء كفره، وهو النار {وَمَنْ عَمِلَ صالحا فَلأِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة بالعمل الصالح، والمهاد: الفراش، وقد مهدت الفراش مهداً: إذا بسطته ووطأته، فجعل الأعمال الصالحة التي هي سبب لدخول الجنة كبناء المنازل في الجنة وفرشها. وقيل: المعنى: فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم في المشفق: أمٌّ فرشت فأنامت، وقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص.
وقال مجاهد: {فلأنفسهم يمهدون} في القبر، واللام في {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ} متعلقة ب {يصدّعون}، أو {يمهدون}، أي يتفرّقون ليجزي الله المؤمنين بما يستحقونه {مِن فَضْلِهِ} أو يمهدون لأنفسهم بالأعمال الصالحة ليجزيهم. وقيل: يتعلق بمحذوف. قال ابن عطية: تقديره ذلك ليجزي، وتكون الإشارة إلى ما تقدّم من قوله: {من عمل} و{من كفر}. وجعل أبو حيان قسيم قوله: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} محذوفاً لدلالة قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين} عليه؛ لأنه كناية عن بغضه لهم الموجب لغضبه سبحانه، وغضبه يستتبع عقوبته.
{وَمِنْ ءاياته أَن يُرْسِلَ الرياح مبشرات} أي ومن دلالات بديع قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر؛ لأنها تتقدّمه كما في قوله سبحانه: {بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل: 63] قرأ الجمهور: {الرياح} وقرأ الأعمش: {الريح} بالإفراد على قصد الجنس لأجل قوله: {مبشرات}، واللام في قوله: {وَلِيُذِيقَكُمْ مّن رَّحْمَتِهِ} متعلقة ب {يرسل}، أي يرسل الرياح مبشرات ويرسلها ليذيقكم من رحمته، يعني: الغيث والخصب. وقيل: هو متعلق بمحذوف، أي وليذيقكم أرسلها. وقيل: الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك، فتتعلق اللام ب {يرسل} {وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ} معطوف على {ليذيقكم من رحمته} أي يرسل الرياح لتجري الفلك في البحر عند هبوبها، ولما أسند الجري إلى الفلك عقبه بقوله: {بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} أي تبتغوا الرزق بالتجارة التي تحملها السفن {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذه النعم فتفردون الله بالعبادة، وتستكثرون من الطاعة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن رِباً} الآية قال: الربا ربوان: ربا لا بأس به وربا لا يصلح. فأما الربا الذي لا بأس به فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها، وأضعافها.
وأخرج البيهقي عنه قال: هذا هو الربا الحلال، أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فقال: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6].
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {وَمَا ءَاتَيْتُمْ مّن زَكَاةٍ} قال: هي الصدقة.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر} قال: البر: البرية التي ليس عندها نهر، والبحر: ما كان من المدائن والقرى على شط نهر.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا.
وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال: من الذنوب.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {يَصَّدَّعُونَ} قال: يتفرقون.


قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} كما أرسلناك إلى قومك {فَجَاءُوهُم بالبينات} أي بالمعجزات، والحجج النيرات {فانتقمنا}: أي فكفروا فانتقمنا {مِنَ الذين أَجْرَمُواْ} أي فعلوا الإجرام، وهي الآثام {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} هذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه، وهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد، وفيه تشريف للمؤمنين ومزيد تكرمة لعباده الصالحين، ووقف بعض القراء على {حقاً} وجعل اسم كان ضميراً فيها وخبرها حقاً، أي وكان الانتقام حقاً. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، والصحيح أن نصر المؤمنين اسمها وحقاً خبرها وعلينا متعلق ب {حقاً}، أو بمحذوف هو صفة له. {الله الذي يُرْسِلُ الرياح} قرأ حمزة والكسائي وابن كثير وابن محيصن: {يرسل الريح} بالإفراد. وقرأ الباقون: {الرياح} قال أبو عمرو: كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو موحد، وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما سبق من أحوال الرياح، فتكون على هذا جملة: {ولقد أرسلنا} إلى قوله: {وكان حقاً علينا نصر المؤمنين} معترضة {فَتُثِيرُ سحابا} أي تزعجه من حيث هو {فَيَبْسُطُهُ فِي السماء كَيْفَ يَشَاء} تارة سائراً وتارة واقفاً، وتارة مطبقاً، وتارة غير مطبق، وتارة إلى مسافة بعيدة، وتارة إلى مسافة قريبة، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة وفي سورة النور {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} تارة أخرى، أو يجعله بعد بسطه قطعاً متفرقة، والكسف جمع كسفة. والكسفة: القطعة من السحاب.
وقد تقدم تفسيره واختلاف القراءة فيه {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} الودق: المطر، و{من خلاله}: من وسطه. وقرأ أبو العالية والضحاك: {يخرج من خلله}. {فَإِذَا أَصَابَ بِهِ} أي بالمطر {مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ} أي بلادهم وأرضهم {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} إذا هي: الفجائية، أي فاجؤوا الاستبشار بمجيء المطر، والاستبشار: الفرح.
{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ} أي من قبل أن ينزل عليهم المطر، وإن هي المخففة، وفيها ضمير شأن مقدر هو اسمها، أي وإن الشأن كانوا من قبل أن ينزل عليهم، وقوله: {مِن قَبْلِهِ} تكرير للتأكيد، قاله الأخفش وأكثر النحويين كما حكاه عنهم النحاس.
وقال قطرب: إن الضمير في: {قبله} راجع إلى المطر، أي وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر. وقيل: المعنى: من قبل تنزيل الغيث عليهم من قبل الزرع والمطر. وقيل: من قبل أن ينزل عليهم من قبل السحاب، أي من قبل رؤيته، واختار هذا النحاس. وقيل: الضمير عائد إلى الكسف. وقيل: إلى الإرسال. وقيل: إلى الاستبشار. والراجح الوجه الأول، وما بعده من هذه الوجوه كلها ففي غاية التكلف والتعسف، وخبر كان {لَمُبْلِسِينَ} أي آيسين أو بائسين.
وقد تقدّم تحقيق الكلام في هذا.
{فانظر إلى أَثَرِ رَحْمَتَ الله} الناشئة عن إنزال المطر من النبات والثمار والزرائع التي بها يكون الخصب ورخاء العيش، أي انظر نظر اعتبار واستبصار لتستدلّ بذلك على توحيد الله، وتفرده بهذا الصنع العجيب. قرأ الجمهور: {أثر} بالتوحيد. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي: {آثار} بالجمع {كَيْفَ يُحْييِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} فاعل الإحياء ضمير يعود إلى الله سبحانه، وقيل: ضمير يعود إلى الأثر، وهذه الجملة في محل نصب بانظر، أي انظر إلى كيفية هذا الإحياء البديع للأرض. وقرأ الجحدري، وأبو حيوة: {تحيي} بالفوقية على أن فاعله ضمير يعود إلى الرحمة، أو إلى الآثار على قراءة من قرأ بالجمع، والإشارة بقوله: {إِنَّ ذلك} إلى الله سبحانه، أي إن الله العظيم الشأن المخترع لهذه الأشياء المذكورة {لَمُحْييِ الموتى} أي لقادر على إحيائهم في الآخرة، وبعثهم، ومجازاتهم كما أحيا الأرض الميتة بالمطر {وَهُوَ على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} أي عظيم القدرة كثيرها.
{وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً} الضمير في: {فرأوه} يرجع إلى الزرع، والنبات الذي كان من أثر رحمة الله، أي فرأوه مصفراً من البرد الناشئ عن الريح التي أرسلها الله بعد اخضراره. وقيل: راجع إلى الريح، وهو يجوز تذكيره وتأنيثه. وقيل: راجع إلى الأثر المدلول عليه بالآثار. وقيل: راجع إلى السحاب لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر، والأول أولى. واللام هي الموطئة، وجواب القسم {لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}، وهو يسدّ مسد جواب الشرط. والمعنى: ولئن أرسلنا ريحاً حارة أو باردة، فضربت زرعهم بالصفار لظلوا من بعد ذلك يكفرون بالله، ويجحدون نعمه، وفي هذا دليل على سرعة تقلبهم وعدم صبرهم، وضعف قلوبهم، وليس كذا حال أهل الإيمان. ثم شبههم بالموتى وبالصم فقال: {فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} إذا دعوتهم، فكذا هؤلاء لعدم فهمهم للحقائق ومعرفتهم للصواب {وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} إذا دعوتهم إلى الحق، ووعظتهم بمواعظ الله وذكرتهم الآخرة وما فيها، وقوله: {إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ} بيان لإعراضهم عن الحق بعد بيان كونهم كالأموات وكونهم صمّ الآذان، قد تقدّم تفسير هذا في سورة النمل. ثم وصفهم بالعمى فقال: {وَمَا أَنتَ بِهَادِ العمى عَن ضلالتهم} لفقدهم للانتفاع بالأبصار كما ينبغي. أو لفقدهم للبصائر {إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} أي ما تسمع إلاّ هؤلاء لكونهم أهل التفكر والتدبر والاستدلال بالآثار على المؤثر {فَهُم مُّسْلِمُونَ} أي منقادون للحق متبعون له.
{الله الذي خَلَقَكُمْ مّن ضَعْفٍ} ذكر سبحانه استدلالاً آخر على كمال قدرته، وهو خلق الإنسان نفسه على أطوار مختلفة، ومعنى من ضعف: من نطفة.
قال الواحدي: قال المفسرون: من نطفة، والمعنى: من ذي ضعف. وقيل: المراد: حال الطفولية والصغر {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ}، وهي قوّة الشباب، فإنه إذ ذاك تستحكم القوّة وتشتدّ الخلقة إلى بلوغ النهاية {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} أي عند الكبر والهرم {وَشَيْبَةً} الشيبة هي: تمام الضعف ونهاية الكبر. قرأ الجمهور: {ضعف} بضم الضاد في هذه المواضع. وقرأ عاصم وحمزة بفتحها. وقرأ الجحدري بالفتح في الأوّلين والضم في الثالث. قال الفراء: الضم لغة قريش والفتح لغة تميم. قال الجوهري: الضعف والضعف خلاف القوّة، وقيل: هو بالفتح في الرأي، وبالضم في الجسم {يَخْلُقُ مَا يَشَاء} يعني: من جميع الأشياء، ومن جملتها القوّة والضعف في بني آدم {وَهُوَ العليم} بتدبيره {القدير} على خلق ما يريده، وأجاز الكوفيون: {من ضعف} بفتح الضاد والعين.
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} أي: القيامة، وسميت ساعة لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا {يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ} أي يحلفون ما لبثوا في الدنيا، أو في قبورهم غير ساعة، فيمكن أن يكونوا استقلوا مدّة لبثهم، واستقرّ ذلك في أذهانهم، فحلفوا عليه وهم يظنون أن حلفهم مطابق للواقع.
وقال ابن قتيبة: إنهم كذبوا في هذا الوقت كما كانوا يكذبون من قبل، وهذا هو الظاهر؛ لأنهم إن أرادوا لبثهم في الدنيا، فقد علم كل واحد منهم مقداره، وإن أرادوا لبثهم في القبور فقد حلفوا على جهالة إن كانوا لا يعرفون الأوقات في البرزخ {كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ} يقال: أفك الرجل: إذا صرف عن الصدق، فالمعنى: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون. وقيل: المراد يصرفون عن الحق. وقيل: عن الخير، والأوّل أولى، وهو دليل على أن حلفهم كذب.
{وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كتاب الله إلى يَوْمِ البعث} اختلف في تعيين هؤلاء الذين أوتوا العلم، فقيل: الملائكة. وقيل: الأنبياء. وقيل: علماء الأمم. وقيل: مؤمنو هذه الأمة، ولا مانع من الحمل على الجميع. ومعنى في كتاب الله: في علمه وقضائه. قال الزجاج: في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ. قال الواحدي: والمفسرون حملوا هذا على التقديم والتأخير على تقدير: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله، وكان ردّ الذين أوتوا العلم عليهم باليمين للتأكيد، أو للمقابلة لليمين باليمين، ثم نبهوهم على طريقة التبكيت بأن {هذا} الوقت الذي صاروا فيه هو {يَوْمُ البعث ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ} أنه حق، بل كنتم تستعجلونه تكذيباً واستهزاء. {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يَنفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} أي لا ينفعهم الاعتذار يومئذ ولا يفيدهم علمهم بالقيامة. وقيل: لما ردّ عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا.
قرأ الجمهور: {لا تنفع} بالفوقية، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتحتية {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يقال: استعتبته فأعتبني، أي استرضيته، فأرضاني، وذلك إذا كنت جانياً عليه، وحقيقة أعتبته أزلت عتبه، والمعنى: أنهم لا يدعون إلى إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إلى ذلك في الدنيا.
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرءان مِن كُلّ مَثَلٍ} أي من كلّ مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله وصدق رسله واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك {وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ} من آيات القرآن الناطقة بذلك، أو لئن جئتهم بآية كالعصا واليد {لَّيَقُولَنَّ الذين كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ} أي ما أنت يا محمد وأصحابك إلاّ مبطلون أصحاب أباطيل تتبعون السحر وما هو مشاكل له في البطلان {كذلك يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} أي مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الفاقدين للعلم النافع الذي يهتدون به إلى الحق، وينجون به من الباطل. ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر معللاً لذلك بحقية وعد الله وعدم الخلف فيه، فقال: {فاصبر} على ما تسمعه منهم من الأذى وتنظره من الأفعال الكفرية فإن الله قد وعدك بالنصر عليهم وإعلاء حجتك وإظهار دعوتك ووعده حق لا خلف فيه {وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ} أي لا يحملنك على الخفة، ويستفزنك عن دينك، وما أنت عليه، الذين لا يوقنون بالله، ولا يصدقون أنبياءه، ولا يؤمنون بكتبه، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، يقال: استخف فلان فلاناً، أي استجهله حتى حمله على اتباعه في الغيّ. قرأ الجمهور: {يستخفنك} بالخاء المعجمة والفاء، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق، والنهي في الآية من باب: لا أرينك هاهنا.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مامن مسلم يردّ عن عرض أخيه إلاّ كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة»، ثم تلا: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين}. وهو من طريق شهر بن حوشب عن أمّ الدرداء عن أبي الدرداء.
وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عنه في قوله: {وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً} قال: قطعاً بعضها فوق بعض {فَتَرَى الودق} قال: المطر {يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} قال: من بينه.
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعاء} في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بدر، والإسناد ضعيف. والمشهور في الصحيحين وغيرهما أن عائشة استدلت بهذه الآية على ردّ رواية من روى من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم نادى أهل قليب بدر، وهو من الاستدلال بالعام على ردّ الخاص، فقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قيل له: إنك تنادي أجساداً بالية: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» وفي مسلم من حديث أنس: أن عمر بن الخطاب لما سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يناديهم، فقال: يا رسول الله، تناديهم بعد ثلاث، وهل يسمعون؟ يقول الله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى}، فقال: «والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم لا يطيقون أن يجيبوا».

1 | 2